أهداف العامل المخدّر:
يتضمن التخدير إعطاء عوامل وريدية أو انشاقية لإحداث حالة يخضع خلالها المريض للعمل الجراحي بأمان وراحة. بينما يُعتبر اختصاص التخدير علماً حديثاً ومُعاصراً، إلا أن كثيراً من الأدوية الحالية موجودةٌ منذ قرون.
للعامل المخدّر أربعة أهداف هي تقديم فقدان الوعي أو النساوة، وتسكين الألم، وتوقف الحركة، وسلامة المريض. يجب أن تكون الأدوية مثالياً ذات بدء تأثير سريع، وفترة تأثير متوقعة، ودون تأثيرات جانبية. لأنه لا يوجد دواء مفرد يمكنه تحقيق هذه الأهداف الأربعة، يعطي طبيب التخدير عادة "تخدّيراً متوازناً" بكمية صغيرة من عدد من الأدوية المختلفة، وبالتالي جعل التأثيرات الإيجابية للدواء بالحد الأقصى مع تقليص تأثيراته الجانبية إلى الحد الأدنى.
1- فقد الوعي:
يمر فقد الوعي بمراحل متسلسلة من اليقظة الكاملة إلى التهدئة المتوسطة ومن ثم التهدئة العميقة وأخيراً فقد الوعي/التخدير العام general anesthesia (GA).
دُرست تأثيرات العوامل المخدرة المختلفة على الوعي باستعمال مخطط كهربية الدماغ (EEG)، وهي أداة تقيس النشاط الكهربائي للدماغ. كما تستعمل أحياناً مخططات كهربية الدماغ EEGs المُعدَلة مثل مِرقاب المؤشر ثنائي الطيف BIS monitor في غرف العمليّات لقياس نشاط الدماغ كتقدير لعمق التخدير.
يترافق فقد الوعي الكامل مع انخفاض ملحوظ في نشاط مخطط كهربية الدماغ. من التقنيات الأخرى لقياس نشاط الدماغ التصوير المقطعي بالانبعاث البوزيتروني positron emission tomography (PET) والتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي functional magnetic resonance imaging (fMRI).
وفقاً للتعريف، يؤدي المخدر العام إلى فقد وعي كامل، بينما قد تؤدي تقنيات التخدير الأخرى إلى التهدئة (التركين) sedation فقط أو قد لا تؤدي إلى أي نقص في الوعي. على سبيل المثال، قد لا يشمل التخدير النخاعي لامرأة تخضع لولادة قيصرية أي أدويةٍ لإنقاص الوعي بسبب الخوف من تأثيراتها على الطفل. من الأدوية التي يمكنها إحداث فقد وعي الغازات الانشاقية والأدوية القابلة للحقن.
الغازات الانشاقية : يعد أوكسيد النيتروز مخدّراً إنشاقياً ضعيفاً نسبياً ولا يُحدِث فقداً كاملاً للوعي؛ لذلك لا يستعمل بمفرده أبداً في التخدير العام ويُكمّل بدلاً من ذلك بالأدوية الأخرى. يعمل عبر التأثير على الأقنية الشاردية والمستقبلات ويتميز بتأثيرات جانبية حميدة نسبياً. السيفوفلوران، والديسفلوران، والإيزوفلوران من العوامل الانشاقية الطيارة الشائعة ويمكن استعمالها كعامل وحيد في التخدير العام.
لا تُعرف الآليات الدقيقة التي تؤثر من خلالها هذه العوامل الانشاقية الطيارة بالكامل، لكن طرحت عدة نظريّات. على المستوى الجزيئي، اقترح ماير وأوفيرتون أن العوامل المخدرة تؤثر في القسم الدسم من الغشاء الخلوي للخلية العصبية. ثم حدّد فرانكس وليب لاحقاً أن موقع التأثير هو في الطبقة البروتينية للغشاء الخلوي. المستقبل الرئيسي المشارك هو مستقبل غاما أمينو حمض البوتيريك γ-aminobutyric acid (GABA)، وهو مستقبل تثبيطي. حيث يُعتقد أن بعض العوامل المخدرة المعيّنة تزيد التأثير التثبيطي لهذا المستقبل، وبالتالي تخفض نشاط الخلية العصبية والوعي.
يجب تبخير العوامل المخدرة الانشاقية الطيارة من حالتها السائلة وتعطى من مِبخرة نوعية للعامل. حيث يُمرّر غاز حامل (مثل الأوكسجين) عبر المِبخرة فينقل العامل الانشاقي، مثلما تحمل النسمة البخار. يُنقل بعدها العامل إلى المريض عبر دارة تنفسية ليدخل الرئتين. بمجرد وصوله الرئتين، ينتشر إلى مجرى الدم حيث يُنقل إلى الدماغ وأماكن أخرى في أنحاء الجسم. تتناسب سرعة بدء تأثير العامل الانشاقي عكسيّاً مع ذوبانيّته، والتي يعبّر عنها بمُعامل الدم/غاز.
التركيز السنخي الأدنى minimum alveolar concentration (MAC) هو تركيز العامل الانشاقي في الرئتين الذي يمنع الحركة عند 50% من المرضى الخاضعين لمنبّه جراحي (مثل إحداث شق بالمبضع). تُطرح المخدّرات الانشاقية رئيسياً من الجسم مع هواء الزفير، لكن يحدث بعض الاستقلاب في الكبد والإطراح في البول وعبر الجلد.
للغازات تأثيرات جانبية كما هو الحال مع جميع الأدوية. في الدماغ، تزيد جريان الدم الدماغي والضغط داخل القحف بالإضافة إلى خفض استهلاك الأوكسجين الاستقلابي الدماغي. أما تأثيرها على الجهاز التنفسي (الطرق الهوائية والرئتين) فهو تخميد التنفس وتوسيع القصبات. يُمكن أن تحدث الطبيعة اللاذعة للديسفلوران تهييجاً للطريق الهوائي. يمكن أن تخفض الغازات أيضاً المقاومة الوعائية الجهازية وقلوصية القلب، وبالتالي تخفض ضغط الدم (نقص ضغط الدم). بإمكان الإيزوفلوران والديسفلوران إحداث زيادة في سرعة القلب، والتي يمكنها التسبّب بإقفار ischemia (نقص التروية) لدى المرضى المصابين بمرضٍ شرياني تاجي.
المخدرات الوريدية: من العوامل المنوّمة المهدّئة الوريدية الشائعة التي تُحدِث فقد الوعي البروبوفول، والإيتوميدات، والبنزوديازبينات (مثل الميدازولام)، والباربيتورات (مثل ثيوبنتال الصوديوم). تعمل هذه العوامل من خلال تثبيط الجملة الشبكية المنشّطة، وهي منطقة في الدماغ مسؤولة عن تنظيم الاستيقاظ/اليقظة، وزيادة تأثير الـ GABA، حيث تحرّض فقد الوعي. الكيتامين عبارة عن مناهض لـ N- ميثيل D- أسبارتات (NMDA) ويحرّض حالة تعرف "بالتخدير التفارقي dissociative anesthesia".
تُحقن جميع هذه العوامل نموذجيّاً داخل الوريد، لكن يمكن حقن بعضها داخل العضل أو امتصاصها عبر السطوح الرطبة (المخاطية) مثل السطوح الموجودة في الممرات الأنفية، والمستقيم والفم. تؤدي ذوبانيتها العالية في الدسم في الدماغ إلى بدء تأثير سريع. وفي حالات كثيرة، تحدّد فترة تأثيرها بشكل رئيسي بإعادة التوزّع (التخفيف dilution) عبر الجسم وليس الاستقلاب أو الإطراح، لذلك تتراكم عند إعطاء جرعات عالية وتستعمل غالباً لبدء (مباشرة) التخدير العام وليس للمحافظة عليه (مداومته).
من التأثيرات الجانبية للبروبوفول الألم في موقع الحقن، لذلك يسبقه غالباً المخدّر الموضعي الليدوكائين أو يعطى معه. كما يُحدِث نقص ضغط دم معتمد على الجرعة نتيجةَ انخفاض القلوصية القلبية وانخفاض المقاومة الوعائية الجهازية، ويُسبّب تثبيط تهوية خطير (أي يمكن أن يتوقف المريض عن التنفّس). السمات السريرية لثيوبنتال الصوديوم شبيههٌ بالبروبوفول، لكنه لا يسبّب ألماً عند الحقن ولا يخفّض ضغط الدم كثيراً. تكمن سيئته في أن تأثيراته المهدّئة تستمر لفترة أطول من البروبوفول. يسبّب الإيتوميدات نقص ضغط دم أقل من البروبوفول أو بينتوثال الصوديوم، لكن يمكن أن يكبت إنتاج الهرمون (الستيروئيدات) ويعد باهظ الثمن نسبياَ. إن تأثيرات لميدازولام القلبية الوعائية الضارة والمتعلقة بالتهوية أقل من أي من الأدوية سابقة الذكر، لكن الجرعات المطلوبة لإحداث فقد الوعي تحتاج فترة أطول للزوال. يحافظ الكيتامين أيضاً على الاستقرار الديناميكي الدموي واستقرار التهوية، لكن يترافق مع بعض التأثيرات النفسية الجسيمة، مثل الهلوسات والكوابيس، والتي قد تستمر لأيام أو أسابيع بعد الإعطاء.
2- تسكين الألم Analgesia :
تستعمل الأفيونات غالباً في إحداث التسكين، حيث قد تستعمل بمفردها أو بالمشاركة مع مسكنات أخرى مثل المخدرات الموضعية، أو الكيتامين، أو الديكسميديتوميدين، أو الكلونيدين. يمكن أن يخفّض إعطاء الأدويةُ المسكنةُ الاستجابةَ الانعكاسية للمنبهات المؤلمة والتي تظهر غالباً على شكل زيادة في سرعة القلب وضغط الدم، ويعرض كلّاً منهما المريض للخطر إن كانت الزيادة كبيرة. تعمل الأفيونات كنواهض على مستقبلاتٍ في الدماغ والحبل الشوكي ولذلك تعتبر أدوية "مؤثرة مركزياً"، رغم وجود بعض التأثيرات أيضاً في كامل الجسم ("تأثير محيطي"). لديها بعض الخواص الشبيهة بالمهدّئ، لكنها لا تقدّم تخديراً عاماً بمفردها، وتضاف نموذجياً كجزء من التخدير المتوازن لتقديم التهدئة إلى جانب تسكين الألم. تترافق أيضاً مع استقرار ديناميكي دموي لكنها ذات تأثير جانبي مهم وهو تثبيط التهوية، خاصة عندما تستعمل مع أدوية أخرى تسبّب التهدئة. من المسكنات الأخرى المؤثرة مركزياً الديكسميديتوميدين والكلونيدين، وهي ناهضة للمستقبلات α، والكيتامين الذي يعمل كمناهض على المستقبلات NMDA. تُسكن المخدرات الموضعية الألمَ عبر إحصار القنوات الشاردية للخلايا العصبية، وبالتالي تمنع نقل الإشارة العصبية عند حصرها للقنوات الشاردية للخلايا العصبية.
3- توقّف الحركة:
المريض الساكن غير المتحرّك أمر أساسي للعمل الجراحي الناجح. تنجم الحركة عن التقلصات العضلية التي تحدث عندما تنشأ إشارة في الدماغ، وتسير نزولاً عبر الحبل الشوكي، وتخرج بعدها إلى عصب محيطي حتى الوصل العصبي العضلي، حيث يكون العصب على تماس قريب مع العضل. تتحرّر مادة تعرف بالأسيتيل كولين acetylcholine (ACh) إلى المستقبلات الموجودة على العضلة، فتُسبّب تغيّراً في خواص العضلة الكهربائية (إزالة استقطاب depolarization). يؤدي هذا لتبادل الصوديوم إلى داخل الخلية العضلية والبوتاسيوم خارج الخلية ويحرّض تقلص العضلة. ينتهي التقلص عندما يغادر ACh المستقبل ويُستقلب بواسطة إنزيم الأسيتيل كولين استراز. فيعود استقطاب repolarize العضلة (ترتخي) وتصبح جاهزة لزوال الاستقطاب (التقلص) مرةً أخرى.
في بعض العمليات، يكون المريض اليقظ أو المُهدّأ الذي يمكنه التعاون هو كل ما هو مطلوب. في حين تحتاج عمليات جراحية أخرى إلى أن يكون المريض فاقداً للوعي وغير قادرٍ على توليد إشارة عصبية حركية، أو مشلولاً وغير قادر على نقل الإشارة. تحصر المخدرات الموضعية الأعصاب التي تحمل الإشارات، بينما تحصر العوامل الحاصرة العصبية العضلية، وتعرف أيضاً بالمرخيات العضلية، عند مستوى الوصل العصبي العضلي.
المرخيات العضلية المزيلة للاستقطاب : السكسينيل كولين من المرخيات العضلية المزيلة للاستقطاب وبنيته شبيهةٌ ببنية الأستيل كولين. يرتبط بالمستقبلات على العضلات ويسبّب إزالة استقطاب مطوّلة، مما يؤدي لتقلص عضلي مديد وغير مُنسقٍ لكامل الجسم (ارتجاف حزمي fasciculations) يتبعه ارتخاء. لا يمكن أن تعود العضلات للتقلص مرة أخرى إلى أن يغادر السكسينيل كولين المستقبل ويستقلب بإنزيم يسمى الكولين استراز الكاذبة pseudocholinesterase. السكسينيل كولين ذو بدء تأثير سريع (30 – 60 ثانية) ويكون غير فعّالٍ سريرياً بعد حوالي 10 دقائق.
المرخيات العضلية غير المزيلة للاستقطاب : تمنع المرخيات العضلية غير المزيلة للاستقطاب nondepolarizing muscle relaxants (NDMRs) أيضاً الأستيل كولين من الارتباط بالصفيحة الحركية الانتهائية، لكنها لا تسبّب تقلّص العضلة (زوال استقطاب). تصنّف الـ NDMRs تبعاً لمدة تأثيرها. يمتلك الفيكورونيوم والروكورونيوم مدة تأثير متوسطة ويُستقلبان بشكل رئيسي بواسطة الكبد ويطرحان بواسطة الكلية. السيس أتراكوريوم أيضاً ذو مدة تأثير متوسطة ومفيد للمرضى المصابين باعتلال وظيفي كبدي أو كلوي لأنه لا يعتمد على هذين العضوين في الإطراح. إذ يستقلب بطريقة غير إنزيمية تعرف بإطراح هوفمان ويتدرك في درجة الـ pH والحرارة الفيزيولوجية.
المنبه العصبي جهازٌ يستعمل لمراقبة عمق التهدئة المُحدثة بالـ NDMRs والإفاقة منها. يُطبّق هذا الجهاز إشارة كهربائية على العصب، وينظر طبيب التخدير بحثاً عن استجابة عضلية أو "نفضة".ا يمتلك الشلل العميق نفضات، بينما تبدي الإفاقة التامة نفضات قوية.
لا تُستعمل الحاصرات العصبية العضلية نموذجياً مع قُنيات القناع الحنجري laryngeal mask airways (LMAs)، ولا تبدّل مستوى الوعي ولا تقدّم تسكيناً. مع المخدرات الطيّارة، يكون مقدار بسيط من الإرخاء العضلي ممكناً، لكن ذلك لا يعتبر كافياً نموذجياً للجراحة التي تحتاج لإرخاء عضلي كامل.
سلامة المريض:
يدعى هذا الهدف أيضاً الاستتباب homeostasis، والذي يعني الحفاظ على الأشياء كما هي. قد تتداخل تأثيرات التخدير والجراحة مع الوظيفة الطبيعية لكثير من الأعضاء الحيوية، خاصة القلب والرئتين، ويجب أن يكون طبيب التخدير قادراً على تشخيص وعلاج أي شذوذ جسيمٍ بسرعة. يُحَقق التشخيص عبر المراقبة المتواصلة والحذرة للمريض. وضعت الجمعية الأمريكية لأطباء التخدير (ASA) معايير لمراقبة المريض خلال التخدير، ويجب أن تضم جميع عوامل التخدير بالحد الأدنى هذه المراقبات المعيارية. وتتضمن مراقبة سرعة القلب ونظمه بتخطيط كهربية القلب (ECG)، وضغط الدم، وإشباع الأوكسجين بمقياس التأكسج النبضي pulse oximeter. يجب مراقبة ثاني أوكسيد الكربون ودرجة الحرارة عندما يكون ذلك مناسباً.
كلية التخدير - أطمة